سورة طه - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


{طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)}
قوله تعالى: {طه} اختلف العلماء في معناه فقال الصديق رضي الله تعالى عنه: هو من الاسرار ذكره الغزنوي ابن عباس معناه يا رجل ذكره البيهقي.
وقيل: إنها لغة معروفة في عكل. وقيل في عك قال الكلبي: لو قلت في عك لرجل يا رجل لم يجب حتى تقول طه. وأنشد الطبري في ذلك فقال:
دعوت بطه في القتال فلم يجب *** فخفت عليه أن يكون موائلا
ويروى مزايلا.
وقال عبد الله بن عمرو: يا حبيبي بلغة عك ذكره الغزنوي وقال قطرب: هو بلغة طئ وأنشد ليزيد بن المهلهل:
إن السفاهة طه من شمائلكم *** لا بارك الله في القوم الملاعين
وكذلك قال الحسن: معنى {طه} يا رجل. وقاله عكرمة وقال هو بالسريانية كذلك ذكره المهدوي وحكاه الماوردي عن ابن عباس أيضا ومجاهد. وحكى الطبري: أنه بالنبطية يا رجل. وهذا قول السدي وسعيد بن جبير وابن عباس أيضا قال:
إن السفاهة طه من خلائقكم *** لا قدس الله أرواح الملاعين
وقال عكرمة أيضا: هو كقولك يا رجل بلسان الحبشة ذكره الثعلبي. والصحيح أنها وإن وجدت في لغة أخرى فإنها من لغة العرب كما ذكرنا وأنها لغة يمنية في عك وطئ وعكل أيضا.
وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى وقسم أقسم به. وهذا أيضا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: هو اسم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماه الله تعالى به كما سماه محمدا. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لي عند ربي عشرة أسماء» فذكر أن فيها طه ويس وقيل: هو اسم للسورة ومفتاح لها.
وقيل: إنه اختصار من كلام الله خص الله تعالى رسوله بعلمه.
وقيل: إنها حروف مقطعة يدل كل حرف منها على معنى واختلف في ذلك فقيل الطاء شجرة طوبى والهاء النار الهاوية والعرب تعبر عن الشيء كله ببعضه كأنه أقسم بالجنة والنار.
وقال سعيد بن جبير: الطاء افتتاح اسمه طاهر وطيب والهاء افتتاح اسمه هادي. وقيل {طاء} يا طامع الشفاعة للامة {هاء} يا هادي الخلق إلى الله.
وقيل: الطاء من الطهارة والهاء من الهداية كأنه يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: يا طاهرا من الذنوب يا هادي الخلق إلى علام الغيوب. وقيل الطاء طبول الغزاة والهاء هيبتهم في قلوب الكافرين. بيانه قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} وقوله: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}.
وقيل: الطاء طرب أهل الجنة في الجنة والهاء هو ان أهل النار في النار. وقول سادس: إن معنى. {طه} طوبى لمن اهتدى قاله مجاهد ومحمد بن الحنفية.
وقول سابع: إن معنى {طه} طإ الأرض وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى الترويح بين قدميه فقيل له: طإ الأرض أي لا تتعب حتى تحتاج إلى الترويح حكاه ابن الأنباري. وقد ذكر القاضي عياض في الشفاء أن الربيع بن أنس قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله تعالى: {طه} يعني طإ الأرض يا محمد. {ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى} 20: 2. الزمخشري: وعن الحسن {طه} وفسر بأنه أمر بالوطي وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معا وأن الأصل طأ فقلبت همزته هاء كما قلبت ألفا في يطأ فيمن قال:
............................ *** ...... لا هناك المرتع
ثم بنى عليه هذا الامر والهاء للسكت.
وقال مجاهد: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يربطون الحبال في صدورهم في الصلاة بالليل من طول القيام ثم نسخ ذلك بالفرض فنزلت هذه الآية.
وقال الكلبي: لما نزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي بمكة اجتهد في العبادة واشتدت عبادته، فجعل يصلي الليل كله زمانا حتى نزلت هذه الآية فأمره الله تعالى أن يخفف عن نفسه فيصلي وينام، فنسخت هذه الآية قيام الليل فكان بعد هذه الآية يصلي وينام.
وقال مقاتل والضحاك: فلما نزل القرآن على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام هو وأصحابه فصلوا فقال كفار قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى فأنزل الله تعالى: {طه} فيقول: يا رجل {ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى 20: 2} أي لتتعب، على ما يأتي. وعلى هذا القول: إن {طه} طاها أي طإ الأرض فتكون الهاء والألف ضمير الأرض أي طإ الأرض برجليك في صلواتك وخففت الهمزة فصارت ألفا ساكنة. وقرأت طائفة: {طه} وأصله طأ بمعنى طإ الأرض فحذفت الهمزة وأدخلت هاء السكت: وقال زر بن حبيش: قرأ رجل على عبد الله بن مسعود {طه. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى 20: 1- 2} فقال له عبد الله: {طه} فقال: يا أبا عبد الرحمن أليس قد أمر أن يطأ الأرض برجليه أو بقدميه. فقال: {طه} كذلك أقرأنيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأمال أبو عمرو وأبو إسحاق الهاء وفتحا الطاء. وأمالهما جميعا أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش. وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين واختاره أبو عبيد. الباقون بالتفخيم قال الثعلبي: وهي كلها لغات صحيحة فصيحة. النحاس: لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين: إحداهما أنه ليس هاهنا ياء ولا كسرة فتكون الإمالة والعلة الأخرى أن الطاء من الحروف الموانع للإمالة فهاتان علتان بينتان. قوله تعالى: {ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى 20: 2} وقرى. {ما نزل عليك القرآن لتشقى}. قال النحاس: بعض النحويين يقول هذه لام النفي وبعضهم يقول لام الجحود.
وقال أبو جعفر: وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول: إنها لام الخفض والمعنى ما أنزلنا عليك القرآن للشقاء. والشقاء يمد ويقصر. وهو من ذوات الواو. واصل الشقاء في اللغة العناء والتعب أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب. قال الشاعر:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
فمعنى لتشقى: لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ} [الكهف: 6] أي ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة.
وروى أن أبا جهل بن هشام- لعنه الله تعالى- والنضر بن الحرث قالا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنك شقي لأنك تركت دين آبائك فأريد رد ذلك بأن دين الإسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز والسبب في درك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها. وعلى الأقوال المتقدمة أنه عليه الصلاة والسلام صلى بالليل حتى اسمغدت قدماه فقال له جبريل: أبق على نفسك فإن لها عليك حقا أي ما أنزلنا عليك القرآن لتنهك نفسك في العبادة وتذيقها المشقة الفادحة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة.
قوله تعالى: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى} 20: 3 قال أبو إسحاق الزجاج: هو بدل من {تشقى} أي ما أنزلناه إلا تذكرة. النحاس: وهذا وجه بعيد وأنكره أبو علي من أجل أن التذكرة ليست بشقاء وإنما هو منصوب على المصدر أي أنزلنا لتذكر به تذكرة أو على المفعول من أجله أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به ما أنزلناه إلا للتذكرة.
وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير مجازه: ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى ولئلا تشقى. {تَنْزِيلًا} 10 مصدر أي نزلناه تنزيلا.
وقيل: بدل من قوله: {تَذْكِرَةً}. وقرأ أبو حيوة الشامي: {تنزيل} بالرفع على معنى هذا تنزيل. {مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى} أي العالية الرفيعة وهى جمع العليا كقوله: كبرى وصغرى وكبر وصغر أخبر عن عظمته وجبروته وجلاله ثم قال: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} 20: 5 ويجوز النصب على المدح. قال أبو إسحاق الخفض على البدل.
وقال سعيد بن مسعدة: الرفع بمعنى هو الرحمن. النحاس: يجوز الرفع بالابتداء والخبر {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} فلا يوقف على {اسْتَوى} وعلى البدل من المضمر في {خَلَقَ} فيجوز الوقف على {اسْتَوى}. وكذلك إذا كان خبر ابتداء محذوف ولا يوقف على {الْعُلى}. وقد تقدم القول في معنى الاستواء في الأعراف. والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن وغيره أنه مستو على عرشه بغير حد ولا كيف كما يكون استواء المخلوقين.
وقال ابن عباس يريد خلق ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة وبعد القيامة {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى} 20: 6 يريد ما تحت الصخرة التي لا يعلم ما تحتها إلا الله تعالى.
وقال محمد بن كعب يعني الأرض السابعة. ابن عباس: الأرض على نون والنون على البحر وأن طرفي النون رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي التي قال الله تعالى فيها {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ} والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله تعالى.
وقال وهب بن منبه: على وجه الأرض سبعة أبحر والأرضون سبع بين كل أرضين بحر فالبحر الأسفل مطبق على شفير جهنم ولولا عظمه وكثرة مائه وبرده لأحرقت جهنم كل من عليها. قال: وجهنم على متن الريح ومتن الريح على حجاب من الظلمة لا يعلم عظمه إلا الله تعالى وذلك الحجاب على الثرى وإلى الثرى انتهى علم الخلائق. قوله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى} 20: 7 قال ابن عباس: السر ما حدث به الإنسان غيره في خفاء وأخفى منه ما أضمر في نفسه مما لم يحدث به غيره. وعنه أيضا السر حديث نفسك وأخفى من السر ما ستحدث به نفسك مما لم يكن وهو كائن أنت تعلم ما تسر به نفسك اليوم ولا تعلم ما تسر به غدا والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسره غدا والمعنى: الله يعلم السر وأخفى من السر وقال ابن عباس أيضا {السر} ما أسر ابن آدم في نفسه {وأخفى} ما خفى على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه فالله تعالى يعلم ذلك كله وعلمه فيما مضى من ذلك وما يستقبل علم واحد وجميع الخلائق في علمه كنفس واحدة وقال قتادة وغيره: {السِّرَّ 20: 7} ما أضمره الإنسان في نفسه {وَأَخْفى 20: 7} منه ما لم يكن ولا أضمره أحد.
وقال ابن زيد: {السر} سر الخلائق {وَأَخْفى 20: 7} منه سره عز وجل وأنكر ذلك الطبري وقال إن الذي هو {أَخْفى 20: 7} ما ليس في سر الإنسان وسيكون في نفسه كما قال ابن عباس. {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} {اللَّهُ} رفع بالابتداء أو على إضمار مبتدإ أو على البدل من الضمير في {يَعْلَمُ}. وحد نفسه سبحانه وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا المشركين إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له فكبر ذلك عليهم فلما سمعه أبو جهل يذكر الرحمن قال للوليد بن المغيرة: محمد ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر وهو يدعو الله والرحمن فأنزل الله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى 20: 5} وأنزل: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى 110} وهو واحد وأسماؤه كثيرة ثم قال: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى 20: 8}. وقد تقدم التنبيه عليها في سورة الأعراف.


{وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)}
قوله تعالى: {وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى} 20: 9 قال أهل المعاني: هو استفهام وإثبات وإيجاب معناه، أليس قد أتاك؟ وقيل: معناه وقد أتاك، قاله ابن عباس.
وقال الكلبي: لم يكن أتاه حديثه بعد ثم أخبره. {إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} 20: 10 قال ابن عباس وغيره: هذا حين قضى الأجل وسار بأهله وهو مقبل من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق، وكان موسى عليه السلام رجلا غيورا: يصحب الناس بالليل ويفارقهم بالنهار غيرة منه، لئلا يروا امرأته فأخطأ الرفقة- لما سبق في علم الله تعالى- وكانت ليلة مظلمة.
وقال مقاتل: وكان ليلة الجمعة في الشتاء. وهب بن منبه: استأذن موسى شعيبا في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله وغنمه، وولد له في الطريق غلام في ليلة شاتية باردة مثلجة، وقد حاد عن الطريق وتفرقت ماشيته، فقدح موسى النار فلم تور المقدحة شيئا، إذ بصر بنار من بعيد على يسار الطريق {فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا 20: 10} أي أقيموا بمكانكم. {إِنِّي آنَسْتُ ناراً} أي أبصرت. قال ابن عباس فلما توجه نحو النار فإذا النار في شجرة عناب، فوقف متعجبا من حسن ذلك الضوء، وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا شدة حر النار تغير حسن خضرة الشجرة، ولا كثرة ماء الشجرة ولا نعمة الخضرة تغيران حسن ضوء النار. وذكر المهدوي: فرأى النار- فيما روى- وهي في شجرة من العليق، فقصدها فتأخرت عنه، فرجع وأوجس في نفسه خيفة، ثم دنت منه وكلمه الله عز وجل من الشجرة. الماوردي: كانت عند موسى نارا: وكانت عند الله تعالى نورا. وقرأ حمزة {لأهله امكثوا} بضم الهاء، وكذا في {القصص}. قال النحاس هذا على لغة من قال: مررت بهو يا رجل، فجاء به على الأصل، وهو جائز إلا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة. وقال: {امْكُثُوا} ولم يقل أقيموا، لان الإقامة تقتضي الدوام، والمكث ليس كذلك. و{آنَسْتُ} أبصرت، قاله ابن الاعرابي. ومنه قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] أي علمتم. وآنست الصوت سمعته، والقبس شعلة من نار، وكذلك المقياس. يقال: قبست منه نارا أقبس قبسا فأقبسني أي أعطاني منه قبسا، وكذلك اقتبست منه نارا واقتبست منه علما أيضا أي استفدته، قال اليزيدي: أقبست الرجل علما وقبسته نارا، فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته.
وقال الكسائي: أقبسته نارا أو علما سواء. وقال: وقبسته أيضا فيهما. {هُدىً} أي هاديا. قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتاها} يعني النار {نُودِيَ} أي من الشجرة كما في سورة القصص أي من جهتها وناحيتها على ما يأتي: {يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [20: 11- 12]. قوله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} 20: 12 فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ 20: 12} روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار ميت» قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد الأعرج حميد- هو ابن علي الكوفي- منكر الحديث، وحميد ابن قيس الأعرج المكي صاحب مجاهد ثقة، والكمة القلنسوة الصغيرة. وقرأ العامة {إني} بالكسر، أي نودي فقيل له يا موسى إني، واختاره أبو عبيد. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن محيصن وحميد {أني} بفتح الالف بإعمال النداء. واختلف العلماء في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين. والخلع النزع. والنعل ما جعلته وقاية لقدميك من الأرض. فقيل: أمر بطرح النعلين، لأنها نجسة إذ هي من جلد غير مذكى، قاله كعب وعكرمة وقتادة.
وقيل: أمر بذلك لينال بركة الوادي المقدس، وتمس قدماه تربة الوادي، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وابن جريج.
وقيل: أمر بخلع النعلين للخشوع والتواضع عند مناجاة الله تعالى. وكذلك فعل السلف حين طافوا بالبيت.
وقيل: إعظاما لذلك الموضع كما أن الحرم لا يدخل بنعلين إعظاما له. قال سعيد بن جبير: قيل له طإ الأرض حافيا كما تدخل الكعبة حافيا. والعرف عند الملوك أن تخلع النعال ويبلغ الإنسان إلى غاية التواضع، فكأن موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه، ولا تبالي كانت نعلاه من ميتة أو غيرها. وقد كان مالك لا يرى لنفسه ركوب دابة بالمدينة برا بتربتها المحتوية على الأعظم الشريفة، والجثة الكريمة. ومن هذا المعنى قول عليه الصلاة والسلام لبشير بن الخصاصية وهو يمشي بين القبور بنعليه: «إذا كنت في مثل هذا المكان فاخلع نعليك» قال: فخلعتهما. وقول خامس: إن ذلك عبارة عن تفريغ قلبه من أمر الأهل والولد. وقد يعبر عن الأهل بالنعل. وكذلك هو في التعبير: من رأى أنه لابس نعلين فإنه يتزوج.
وقيل: لان الله تعالى بسط له بساط النور والهدى، ولا ينبغي أن يطأ على بساط رب العالمين بنعله. وقد يحتمل أن يكون موسى أمر بخلع نعليه، وكان ذلك أول فرض عليه، كما كان أول ما قيل لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 2- 3- 4- 5] والله أعلم بالمراد من ذلك.
الثانية: في الخبر أن موسى عليه السلام خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي.
وقال أبو الأحوص: زار عبد الله أبا موسى في داره، فأقيمت الصلاة فأقام أبو موسى، فقال أبو موسى لعبد الله: تقدم. فقال عبد الله: تقدم أنت في دارك. فتقدم وخلع نعليه، فقال عبد الله: أبا الوادي المقدس أنت؟! وفي صحيح مسلم عن سعيد بن يزيد قال: قلت لأنس أكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي في نعلين قال: نعم. ورواه النسائي عن عبد الله بن السائب: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الفتح فوضع نعليه عن يساره.
وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة قال: «ما حملكم على إلقائكم نعالكم» قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا» وقال: «إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما». صححه أبو محمد عبد الحق. وهو يجمع بين الحديثين قبله، ويرفع بينهما التعارض. ولم يختلف العلماء في جواز الصلاة في النعل إذا كانت طاهرة من ذكي، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الصلاة فيهما أفضل، وهو معنى قوله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31] على ما تقدم.
وقال إبراهيم النخعي في الذين يخلعون نعالهم: لوددت أن محتاجا جاء فأخذها.
الثالثة: فإن خلعتهما فاخلعهما بين رجليك، فإن أبا هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا صلى أحدكم فليخلع نعليه بين رجليه».
وقال أبو هريرة للمقبري: أخلعهما بين رجليك ولا تؤذ بهما مسلما. وما رواه عبد الله بن السائب رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام خلعهما عن يساره فإنه كان إماما، فإن كنت إماما أو وحدك فافعل ذلك إن أحببت، وإن كنت مأموما في الصف فلا تؤذ بهما من على يسارك، ولا تضعهما بين قدميك فتشغلاك، ولكن قدام قدميك. وروي عن جبير بن مطعم أنه قال: وضع الرجل نعليه بين قدميه بدعة.
الرابعة: فإن تحقق فيهما نجاسة مجمع على تنجيسها كالدم والعذرة من بول بني آدم لم يطهرها إلا الغسل بالماء، عند مالك والشافعي وأكثر العلماء، وإن كانت النجاسة مختلفا فيها كبول الدواب وأوراثها الرطبة فهل يطهرها المسح بالتراب من النعل والخف أو لا؟ قولان عندنا. وأطلق الاجزاء بمسح ذلك بالتراب من غير تفصيل الأوزاعي وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: يزيله إذا يبس الحك والفرك، ولا يزيل رطبه إلا الغسل ما عدا البول فلا يجزئ فيه عنده إلا الغسل.
وقال الشافعي: لا يطهر شيئا من ذلك كله إلا الماء. والصحيح قول من قال: إن المسح يطهره من الخف والنعل، لحديث أبي سعيد. فأما لو كانت النعل والخف من جلد ميتة فان كان غير مدبوغ فهو نجس باتفاق، ما عدا ما ذهب إليه الزهري والليث، على ما تقدم بيانه في سورة النحل. ومضى في سورة براءة القول في إزالة النجاسة والحمد لله.
الخامسة: قوله تعالى: {إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} 20: 12 المقدس: المطهر. والقدس: الطهارة، والأرض المقدسة أي المطهرة، سميت بذلك لان الله تعالى أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين. وقد جعل الله تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض، كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض، ولبعض الحيوان كذلك. ولله أن يفضل ما شاء. وعلى هذا فلا اعتبار بكونه مقدسا بإخراج الكافرين وإسكان المؤمنين، فقد شاركه في ذلك غيره. و{طُوىً} اسم الوادي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وقال الضحاك: هو واد عميق مستدير مثل الطوى. وقرأ عكرمة: {طوى}. الباقون {طُوىً}. قال الجوهري: {طُوىً} اسم موضع بالشام، تكسر طاؤه وتضم، ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة.
وقال بعضهم: {طُوىً} مثل {طوى} وهو الشيء المثنى، وقالوا في قوله: {الْمُقَدَّسِ طُوىً}: طوي مرتين أي قدس.
وقال الحسن: ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين. وذكر المهدوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قيل له: {طُوىً} لان موسى طواه بالليل إذ مر به فارتفع إلى أعلى الوادي، فهو مصدر عمل فيه ما ليس من لفظه، فكأنه قال: {إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ} 20: 12 الذي طويته طوى، أي تجاوزته فطويته بسيرك. الحسن: معناه أنه قدس مرتين، فهو مصدر من طويته طوى أيضا.
قوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} 20: 13 أي اصطفيتك للرسالة. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم والكسائي {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ 20: 13}. وقرأ حمزة {وأنا اخترناك}. والمعنى واحد إلا أن {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ 20: 13} ها هنا أولى من جهتين: إحداهما أنها أشبه بالخط، والثانية أنها أولى بنسق الكلام، لقوله عز وجل: {يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ 20: 11- 12} وعلى هذا النسق جرت المخاطبة، قاله النحاس. قوله تعالى: {فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى} 20: 13 فيه مسألة واحدة- قال ابن عطية: وحدثني أبي- رحمه الله- قال سمعت أبا الفضل الجوهري رحمه الله تعالى يقول: لما قيل لموسى صلوات الله وسلامه عليه: {فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى 20: 13} وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شماله، وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع، وكان كل لباسه صوفا. قلت: حسن الاستماع كما يجب قد مدح الله عليه فقال: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ} [الزمر: 18] وذم على خلاف هذا الوصف فقال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ} الآية. فمدح المنصت لاستماع كلامه مع حضور العقل، وأمر عباده بذلك أدبا لهم، فقال: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 20} [الأعراف: 204] وقال ها هنا: {فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى 20: 13} لان بذلك ينال الفهم عن الله تعالى. روى عن وهب بن منبه أنه قال: من أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها. فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم.
وقال سفيان بن عيينة: أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل ثم النشر، فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بنية صادقة على ما يحب الله أفهمه كما يحب، وجعل له في قلبه نورا.
قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} فيه سبع مسائل:
الأولى: اختلف في تأويل قوله: {لِذِكْرِي} فقيل: يحتمل أن يريد لتذكرني فيها، أو يريد لأذكرك بالمدح في عليين بها، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل وإلى المفعول.
وقيل: المعنى، أي حافظ بعد التوحيد على الصلاة. وهذا تنبيه على عظم قدر الصلاة إذ هي تضرع إلى الله تعالى، وقيام بين يديه، وعلى هذا فالصلاة هي الذكر. وقد سمى الله تعالى الصلاة ذكرا في قوله: {فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9].
وقيل: المراد إذا نسيت فتذكرت فصل كما في الخبر: «فليصلها إذا ذكرها». أي لا تسقط الصلاة بالنسيان.
الثانية: روى مالك وغيره أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [20: 14]».
وروى أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث حجاج بن حجاج- وهو حجاج الأول الذي روى عنه يزيد بن زريع- قال حدثنا قتادة عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الرجل يرقد عن الصلاة ويغفل عنها قال: «كفارتها أن يصليها إذا ذكرها» تابعه إبراهيم بن طهمان عن حجاج، وكذا يروي همام بن يحيى عن قتادة.
وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها» فقوله: «فليصلها إذا ذكرها» دليل على وجوب القضاء على النائم والغافل، كثرت الصلاة أو قلت، وهو مذهب عامة العلماء وقد حكى خلاف شاذ لا يعتد به، لأنه مخالف لنص الحديث عن بعض الناس فيما زاد على خمس صلوات أنه لا يلزمه قضاء. قلت: أمر الله تعالى بإقامة الصلاة، ونص على أوقات معينة، فقال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} الآية وغيرها من الآي. ومن أقام بالليل ما أمر بإقامته بالنهار، أو بالعكس لم يكن فعله مطابقا لما أمر به، ولا ثواب له على فعله وهو عاص، وعلى هذا الحد كان لا يجب عليه قضاء ما فات وقته. ولولا قوله عليه الصلاة والسلام: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» لم ينتفع أحد بصلاة وقعت في غير وقتها، وبهذا الاعتبار كان قضاء لا أداء، لان القضاء بأمر متجدد وليس بالأمر الأول.
الثالثة: فأما من ترك الصلاة متعمدا، فالجمهور أيضا على وجوب القضاء عليه، وإن كان عاصيا إلا داود. ووافقه أبو عبد الرحمن الأشعري الشافعي، حكاه عنه ابن القصار. والفرق بين المتعمد والناسي والنائم، حط المأثم، فالمتعمد مأثوم وجميعهم قاضون. والحجة للجمهور قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] ولم يفرق بين أن يكون في وقتها أو بعدها. هو أمر يقتضي الوجوب. وأيضا فقد ثبت الامر بقضاء النائم والناسي، مع أنهما غير مأثومين، فالعامد أولى. وأيضا قوله: «من نام عن صلاة أو نسيها» والنسيان الترك، قال الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] و{نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19] سواء كان مع ذهول أو لم يكن، لان الله تعالى لا ينسى. وإنما معناه تركهم. و{ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها 10} [البقرة: 106] أي نتركها. وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره. قال الله تعالى: {من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي} وهو تعالى لا ينسى فيكون ذكره بعد نسيان وإنما معناه علمت. فكذلك يكون معنى قوله: «إذا ذكرها» أي علمها. وأيضا فإن الديون التي للآدمين إذا كانت متعلقة بوقت، ثم جاء الوقت لم يسقط قضاؤها بعد وجوبها، وهي مما يسقطها الإبراء كان في ديون الله تعالى ألا يصح فيها الإبراء أولى ألا يسقط قضاؤها إلا بإذن منه. وأيضا فقد اتفقنا أنه لو ترك يوما من رمضان متعمدا بغير عذر لوجب قضاؤه فكذلك الصلاة. فان قيل فقد روى عن مالك: من ترك الصلاة متعمدا لا يقضي أبدا. فالإشارة إلى أن ما مضى لا يعود، أو يكون كلاما خرج على التغليظ، كما روي عن ابن مسعود وعلي: أن من أفطر في رمضان عامدا لم يكفره صيام الدهر وإن صامه. ومع هذا فلا بد من توفية التكليف حقه بإقامة القضاء مقام الأداء، وإتباعه بالتوبة، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء. وقد روى أبو المطوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يجزه صيام الدهر وإن صامه» وهذا يحتمل أن لو صح كان معناه التغليظ، وهو حديث ضعيف خرجه أبو داود. وقد جاءت الكفارة بأحاديث صحاح، وفي بعضها قضاء اليوم، والحمد لله تعالى.
الرابعة: قوله عليه الصلاة والسلام: «من نام عن صلاة أو نسيها» الحديث يخصص عموم قوله عليه الصلاة والسلام: «رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ»والمراد بالرفع هنا رفع المأثم لا رفع الفرض عنه، وليس هذا من باب قوله: «وعن الصبي حتى يحتلم» وإن كان ذلك جاء في أثر واحد، فقف على هذا الأصل.
الخامسة: اختلف العلماء في هذا المعنى فيمن ذكر صلاة فائتة وهو في آخر وقت صلاة، أو ذكر صلاة وهو في صلاة، فجملة مذهب مالك: أن من ذكر صلاة وقد حضر وقت صلاة أخرى، بدأ بالتي نسي إذا كان خمس صلوات فأدنى، وإن فات وقت هذه. وإن كان أكثر من ذلك بدأ بالتي حضر وقتها، وعلى نحو هذا مذهب أبي حنيفة والثوري والليث، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان في الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت. فإن خشي فوات الوقت بدأ بها، فإن زاد على صلاة يوم وليلة لم يجب الترتيب عندهم. وقد روى عن الثوري وجوب الترتيب، ولم يفرق بين القليل والكثير. وهو تحصيل مذهب الشافعي. قال الشافعي: الاختيار أن يبدأ بالفائتة ما لم يخف فوات هذه، فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه. وذكر الأثرم أن الترتيب عند أحمد واجب في صلاة ستين سنة فأكثر. وقال: لا ينبغي لاحد أن يصلي صلاة وهو ذاكر لما قبلها لأنها تفسد عليه.
وروى الدارقطني عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قال عليه الصلاة والسلام: «إذا ذكر أحدكم صلاة وهو في صلاة مكتوبة فليبدأ بالتي هو فيها فإذا فرغ منها صلى التي نسي» وعمر بن أبي عمر مجهول. قلت: وهذا لو صح كانت حجة للشافعي في البداءة بصلاة الوقت. والصحيح ما رواه أهل الصحيح عن جابر بن عبد الله: أن عمر يوم الخندق جعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله والله ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فو الله إن صليتها» فنزلنا البطحان فتوضأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتوضأنا فصلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب. وهذا نص في البداءة بالفائتة قبل الحاضرة، ولا سيما والمغرب وقتها واحد مضيق غير ممتد في الأشهر عندنا، وعند الشافعي كما تقدم.
وروى الترمذي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: أن المشركين شغلوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله تعالى، فأمر بالأذان بلالا فقام فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء،. وبهذا أستدل العلماء على أن من فاتته صلوات، قضاها مرتبة كما فاتته إذا ذكرها في وقت واحد. واختلفوا إذا ذكر فائتة في مضيق وقت حاضرة على ثلاثة أقوال: يبدأ بالفائتة وإن خرج وقت الحاضرة، وبه قال مالك والليث والزهري وغيرهم كما قدمناه.
الثاني- يبدأ بالحاضرة وبه قال الحسن والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث والمحاسبي وابن وهب من أصحابنا.
الثالث- يتخير فيقدم أيتهما شاء، وبه قال أشهب. وجه الأول: كثرة الصلوات ولا خلاف أنه يبدأ بالحاضرة مع الكثرة، قاله القاضي عياض. واختلفوا في مقدار اليسير، فعن مالك: الخمس فدون، وقد قيل: الأربع فدون لحديث جابر، ولم يختلف المذهب أن الست كثير.
السادسة: وأما من ذكر صلاة وهو في صلاة، فإن كان وراء الامام فكل من قال بوجوب الترتيب ومن لم يقل به يقول، يتمادى مع الامام حتى يكمل صلاته. والأصل في هذا ما رواه مالك والدارقطني عن ابن عمر قال: «إذا نسي أحدكم صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الامام فليصل مع الامام فإذا فرغ من صلاته فليصل الصلاة التي نسي ثم ليعد صلاته التي صلى مع الامام» لفظ الدارقطني، وقال موسى بن هرون: وحدثناه أبو إبراهيم الترجماني، قال: حدثنا سعيد به ورفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووهم في رفعه، فإن كان قد رجع عن رفعه فقد وفق للصواب. ثم اختلفوا، فقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: يصلى التي ذكر، ثم يصلي التي صلى مع الامام إلا أن يكون بينهما أكثر من خمس صلوات، على ما قدمنا ذكره عن الكوفيين. وهو مذهب جماعة من أصحاب مالك المدنيين. وذكر الخرقي عن أحمد بن حنبل أنه قال: من ذكر صلاة وهو في أخرى فإنه يتمها ويقضي المذكورة، وأعاد التي كان فيها إذا كان الوقت واسعا فإن خشي خروج الوقت وهو فيها أعتقد ألا يعيدها، وقد أجزأته ويقضي التي عليه.
وقال مالك: من ذكر صلاة وهو في صلاة قد صلى منها ركعتين سلم من ركعتين، فإن كان إماما انهدمت عليه وعلى من خلفه وبطلت. هذا هو الظاهر من مذهب مالك، وليس عند أهل النظر من أصحابه كذلك، لان قوله فيمن ذكر صلاة في صلاة قد صلى منها ركعة أنه يضيف إليها أخرى ويسلم. ولو ذكرها في صلاة قد صلى منها ثلاث ركعات أضاف إليها رابعة وسلم، وصارت نافلة غير فاسدة ولو انهدمت عليه كما ذكر وبطلت لم يؤمر أن يضيف إليها أخرى، كما لو أحدث بعد ركعة لم يضف إليها أخرى.
السابعة: روى مسلم عن أبى قتادة قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر حديث الميضأة بطوله، وقال فيه ثم قال: «أما لكم في أسوة» ثم قال: «أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها» وأخرجه الدارقطني هكذا بلفظ مسلم سواء، فظاهره يقتضي إعادة المقضية مرتين عند ذكرها وحضور مثلها من الوقت الآتي، ويعضد هذا الظاهر ما أخرجه أبو داود من حديث عمران بن حصين، وذكر القصة وقال في آخرها: «فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحا فليقض معها مثلها». قلت: وهذا ليس على ظاهره، ولا تعاد غير مرة واحدة، لما رواه الدارقطني عن عمران ابن حصين قال: سرينا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزاة- أو قال في سرية- فلما كان وقت السحر عرسنا، فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس، فجعل الرجل منا يثب فزعا دهشا، فلما استيقظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا فارتحلنا، ثم سرنا حتى ارتفعت الشمس، فقضى القوم حوائجهم، ثم أمر بلالا فأذن فصلينا ركعتين، ثم أمره فأقام فصلينا الغداة، فقلنا: يا نبي الله ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم».
وقال الخطابي: لا أعلم أحدا قال بهذا وجوبا، ويشبه أن يكون الامر به استحبابا ليحرز فضيلة الوقت في القضاء. والصحيح ترك العمل لقوله عليه السلام: «أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم» ولان الطرق الصحاح من حديث عمران بن حصين ليس فيها من تلك الزيادة شي، إلا ما ذكر من حديث أبي قتادة وهو محتمل كما بيناه. قلت: ذكر الكيا الطبري في أحكام القرآن له أن من السلف من خالف قوله عليه الصلاة والسلام: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك» فقال: يصبر إلى مثل وقته فليصل، فإذا فات الصبح فليصل من الغد. وهذا قول بعيد شاذ. قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى} [20: 15] آية مشكلة، فروي عن سعيد بن جبير أنه قرأ {أَكادُ أُخْفِيها 20: 15} بفتح الهمزة، قال: أظهرها. {لِتُجْزى} أي الإظهار للجزاء، رواه أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وقاء بن إياس عن سعيد بن جبير.
وقال النحاس: وليس لهذه الرواية طريق غير هذا. قلت: وكذا رواه أبو بكر الأنباري في كتاب الرد، حدثني أبي حدثنا محمد بن الجهم حدثنا الفراء حدثنا الكسائي، ح- وحدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا يوسف حدثنا يحيى الحماني حدثنا محمد بن سهل. قال النحاس، وأجود من هذا الاسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنه قرأ: {أَكادُ أُخْفِيها 20: 15} بضم الهمزة. قلت: وأما قراءة ابن جبير {أخفيها} بفتح الهمزة بالإسناد المذكور فقال أبو بكر الأنباري قال الفراء: معناه أظهرها من خفيت الشيء أخفيه إذ أظهرته. وأنشد الفراء لامرئ القيس:
فإن تدفنوا الداء لا نخفه *** وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
أراد لا نظهره، وقد قال بعض اللغويين: يجوز أن يكون {أُخْفِيها 20: 15} بضم الهمزة معناه أظهرها لأنه يقال: خفيت الشيء وأخفيته إذا أظهرته، فأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار.
وقال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد، النحاس: وهذا حسن، وقد حكاه عن أبي الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا يشك في صدقه، وقد روى عنه سيبويه وأنشد:
وإن تكتموا الداء لا نخفه *** وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
كذا رواه أبو عبيدة عن أبي الخطاب بضم النون.
وقال امرؤ القيس أيضا:
خفاهن من أنفاقهن كأنما *** خفاهن ودق من عشي مجلب
أي أظهرهن. وروى: {من سحاب مركب} بدل {من عشي مجلب}.
وقال أبو بكر الأنباري: وتفسير للآية آخر: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ 20: 15} انقطع الكلام على {أَكادُ 20: 15} وبعده مضمر أكاد آتي بها، والابتداء {أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ 20: 15} قال ضابئ البرجمي:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني *** تركت على عثمان تبكي حلائله
أراد وكدت أفعل، فأضمر مع كدت فعلا كالفعل المضمر معه في القرآن. قلت: هذا الذي اختاره النحاس، وزيف القول الذي قبله فقال يقال: خفى الشيء يخفيه إذا أظهره، وقد حكى أنه يقال: أخفاه أيضا إذا أظهره، وليس بالمعروف، قال: وقد رأيت علي بن سليمان لما أشكل عليه معنى {أُخْفِيها 20: 15} عدل إلى هذا القول، وقال: معناه كمعنى {أُخْفِيها 20: 15}. قال النحاس: ليس المعنى على أظهر ولا سيما و{أُخْفِيها 20: 15} قراءة شاذة، فكيف ترد القراءة الصحيحة الشائعة إلى الشاذة، ومعنى المضمر أولى، ويكون التقدير: إن الساعة آتية أكاد آتي بها، ودل: {آتِيَةٌ} على آتي بها، ثم قال: {أُخْفِيها 20: 15} على الابتداء. وهذا معنى صحيح، لان الله عز وجل قد أخفى الساعة التي هي القيامة، والساعة التي يموت فيها الإنسان ليكون الإنسان يعمل، والامر عنده مبهم فلا يؤخر التوبة.
قلت: وعلى هذا القول تكون اللام في {لِتُجْزى} متعلقة بـ {أُخْفِيها 20: 15}.
وقال أبو على: هذا من باب السلب وليس من باب الأضداد، ومعنى {أُخْفِيها 20: 15} أزيل عنها خفاءها، وهو سترها كخفاء الا خفية وهي الأكسية والواحد خفاء بكسر الخاء ما تلف به القربة، وإذا زال عنها سترها ظهرت. ومن هذا قولهم: أشكيته، أي أزلت شكواه، وأعديته أي قبلت استعداءه ولم أحوجه إلى إعادته. وحكى أبو حاتم عن الأخفش: أن {كاد} زائدة موكدة. قال: ومثله {إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها 40} [النور: 40] لان الظلمات التي ذكرها الله تعالى بعضها يحول بين الناظر والمنظور إليه.
وروى معناه عن ابن جبير، والتقدير: إن الساعة آتية أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى.
وقال الشاعر:
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه *** فما إن يكاد قرنه يتنفس
أراد فما يتنفس.
وقال آخر:
وألا ألوم النفس فيما أصابني *** وألا أكاد بالذي نلت أنجح
معناه: وألا أنجح بالذي نلت، فأكاد توكيد للكلام.
وقيل: المعنى {أَكادُ أُخْفِيها 20: 15} أي أقارب ذلك، لأنك إذا قلت: كاد زيد يقوم، جاز أن يكون قام، وأن يكون لم يقم. ودل على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه على هذا الجواب. قال اللغويون: كدت أفعل معناه عند العرب: قاربت الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل معناه: فعلت بعد إبطاء. وشاهده قول الله عزت عظمته: {فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] معناه: وفعلوا بعد إبطاء لتعذر وجدان البقرة عليهم. وقد يكون ما كدت أفعل بمعنى ما فعلت ولا قاربت إذا أكد الكلام بأكاد.
وقيل: معنى. {أَكادُ أُخْفِيها 20: 15} أريد أخفيها. قال الأنباري: وشاهد هذا قول الفصيح من الشعر:
كادت وكدت وتلك خير إرادة *** لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
معناه: أرادت وأردت.
وقال ابن عباس وأكثر المفسرين فيما ذكره الثعلبي: إن المعنى أكاد أخفيها من نفسي، وكذلك هو في مصحف أبي.
وفي مصحف ابن مسعود: أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق.
وفي بعض القراءات: فكيف أظهرها لكم. وهذا محمول على أنه جاء على ما جرت به عادة العرب في كلامها، من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال: كدت أخفيه من نفسي. والله تعالى لا يخفي عليه شي، قال معناه قطرب وغيره. والله أعلم وقال الشاعر:
أيام تصحبني هند وأخبرها *** ما أكتم النفس من حاجي وأسراري
فكيف يخبرها بما تكتم نفسه. ومن هذا الباب قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» الزمخشري وقيل معناه: أكاد أخفيها من نفسي، ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف، ومحذوف لا دليل عليه مطرح، والذي غرهم منه أن في مصحف أبي: أكاد أخفيها من نفسي، وفي بعض المصاحف: أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها. قلت: وقيل إن معنى قول من قال أكاد أخفيها من نفسي، أي إن إخفاءها كان من قبلي ومن عندي لا من قبل غيري. وروي عن ابن عباس أيضا: أكاد أخفيها من نفسي، ورواه طلحة بن عمرو عن عطاء.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا أظهر عليها أحدا.
وروى عن سعيد بن جبير قال: قد أخفاها. وهذا على أن كاد زائدة. أي إن الساعة آتية أخفيها، والفائدة في إخفائها التخويف والتهويل.
وقيل: تعلق {لِتُجْزى} بقول تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} فيكون في الكلام تقديم وتأخير، أي أقم الصلاة لتذكرني. {لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى} أي بسعيها. {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها} 20: 15. والله أعلم.
وقيل: هي متعلقة بقوله: {آتِيَةٌ} أي إن الساعة آتية لتجزى {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها} 20: 16 أي لا يصرفنك عن الايمان بها والتصديق لها. {مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى} 20: 16 أي فتهلك. وهو في موضع نصب بجواب النهي.


{وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ} 20: 17 قيل: كان هذا الخطاب من الله تعالى لموسى وحيا، لأنه قال: {فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى} 20: 13 ولا بد للنبي في نفسه من معجزة يعلم بها صحة نبوة نفسه، فأراه في العصا وفي نفسه ما أراه لذلك. ويجوز أن يكون ما أراه في الشجرة آية كافية له في نفسه، ثم تكون اليد والعصا زيادة توكيد، وبرهانا يلقى به قومه. واختلف في {ما} في قوله: {وَما تِلْكَ} 20: 17 فقال الزجاج والفراء: هي اسم ناقص وصلت بـ {يمينك} أي ما التي بيمينك؟ وقال الفراء أيضا: {تِلْكَ} بمعنى هذه، ولو قال: ما ذلك لجاز، أي ما ذلك الشيء: ومقصود السؤال تقرير الامر حتى يقول موسى: هي عصاي، لتثبت الحجة عليه بعد ما اعترف، وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل.
وقال ابن الجوهري وفي بعض الآثار أن الله تعالى عتب على موسى إضافة العصا إلى نفسه في ذلك الموطن، فقيل له: ألقها لترى منها العجب فتعلم أنه لا ملك عليها ولا تنضاف إليك. وقرأ ابن أبي إسحاق: {عصي} على لغة هذيل، ومثله {يا بُشْرى} و{محيي} وقد تقدم. وقرأ الحسن: {عَصايَ 20: 18} بكسر الياء لالتقاء الساكنين. ومثل هذا قراءة حمزة: {وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22]. وعن ابن أبي إسحاق سكون الياء.
الثانية: في هذه الآية دليل على جواب السؤال بأكثر مما سئل، لأنه لما قال: {وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى 20: 17} ذكر معاني أربعة: وهي: إضافة العصا إليه، وكان حقه أن يقول عصا، والتوكؤ، والهش والمآرب المطلقة. فذكر موسى من منافع عصاه عظمها وجمهورها وأجمل سائر ذلك.
وفي الحديث سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ماء البحر فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته». وسألته امرأة عن الصغير حين رفعته إليه فقالت: ألهذا حج؟ قال: «نعم ولك أجر». ومثله في الحديث كثير.
الثالثة: قوله تعالى: {أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها} 20: 18 أي أتحامل عليها في المشي والوقوف، ومنه الاتكاء {وَأَهُشُّ بِها} 20: 18 {وَأَهُشُّ 20: 18} أيضا، ذكره النحاس. وهي قراءة النخعي، أي أخبط بها الورق، أي أضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها، فيسهل على غنمي تناوله فتأكله. قال الراجز:
أهش بالعصا على أغنامي *** من ناعم الأراك والبشام
يقال: هش على غنمه يهش بضم الهاء في المستقبل. وهش إلى الرجل يهش بالفتح. وكذلك هش للمعروف يهش وهششت أنا: وفي حديث عمر: هششت يوما فقبلت وأنا صائم. قال شمر: أي فرحت واشتهيت. قال: ويجوز هاش بمعنى هش. قال الراعي:
فكبر للرؤيا وهاش فؤاده *** وبشر نفسا كان قبل يلومها
أي طرب. والأصل في الكلمة الرخاوة. يقال رجل هش وزوج هش. وقرأ عكرمة: {وأهس} بالسين غير معجمة، قيل: هما لغتان بمعنى واحد.
وقيل: معناهما مختلف، فالهش بالاعجام خبط الشجر، والهس بغير إعجام زجر الغنم، ذكره الماوردي، وكذلك ذكر الزمخشري. وعن عكرمة: {وأهس} بالسين أي أنحي عليها زاجرا لها والهس زجر الغنم.
الرابعة: قوله تعالى: {وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى} 20: 18 أي حوائج. واحدها مأربه ومأربه ومأربه. وقال: {أُخْرى} على صيغة الواحد، لان مآرب في معنى الجماعة، لكن المهيع في توابع جمع ما لا يعقل الافراد والكناية عنه بذلك، فإن ذلك يجري مجرى الواحدة المؤنثة، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها 180} [الأعراف: 180] وكقوله: {يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ 10} [سبأ: 10] وقد تقدم هذا في الأعراف.
الخامسة: تعرض قوم لتعديد منافع العصا منهم ابن عباس، قال: إذا انتهيت إلى رأس بئر فقصر الرشا وصلته بالعصا، وإذا أصابني حر الشمس غرزتها في الأرض وألقيت عليها ما يظلني، وإذا خفت شيئا من هوام الأرض قتلته بها، وإذا مشيت ألقيتها على عاتقي وعلقت عليها القوس والكنانة والمخلاة، وأقاتل بها السباع عن الغنم.
وروى عنه ميمون بن مهران قال: إمساك العصا سنة للأنبياء، وعلامة للمؤمن.
وقال الحسن البصري: فيها ست خصال، سنة للأنبياء، وزينة الصلحاء، وسلاح على الاعداء، وعون للضعفاء، وغم المنافقين، وزيادة في الطاعات. ويقال: إذا كان مع المؤمن العصا يهرب منه الشيطان، ويخشع منه المنافق والفاجر، وتكون قبلته إذا صلى، وقوه إذا أعيا. ولقي الحجاج أعرابيا فقال: من أين أقبلت يا أعرابي؟ قال: من البادية. قال: وما في يدك؟ قال: عصاي أركزها لصلاتي، واعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي لتتسع خطوتي، واثب بها النهر، وتؤمنني من العثر، وألقي عليها كسائي فيقيني الحر، ويدفئني من القر، وتدني إلي ما بعد مني، وهي محمل سفرتي، وعلاقة إداوتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأتقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الاقران، ورثتها عن أبي، وأورثها بعدي ابني، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى، كثيرة لا تحصى. قلت: منافع العصا كثيرة، ولها مدخل في مواضع من الشريعة: منها أنها تتخذ قبلة في الصحراء، وقد كان للنبي عليه الصلاة والسلام عنزة تركز له فيصلي إليها، وكان إذا خرج يوم العيد أم بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها، وذلك ثابت في الصحيح. والحربة والعنزة والنيزك والآلة اسماء لمسمى واحد. وكان له محجن وهو عصا معوجة الطرف يشير به إلى الحجر إذا لم يستطع أن يقبله، ثابت في الصحيح أيضا.
وفي الموطأ عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر.
وفي الصحيحين: أنه عليه الصلاة والسلام كان له مخصرة. والإجماع منعقد على أن الخطيب يخطب متوكئا على سيف أو عصا، فالعصا مأخوذة من أصل كريم، ومعدن شريف، ولا ينكرها إلا جاهل. وقد جمع الله لموسى في عصاه من البراهين العظام، والآيات الجسام، ما آمن به السحرة المعاندون. واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته. وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنزته، وكان يخطب بالقضيب- وكفى بذلك فضلا على شرف حال العصا- وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطباء، وعادة العرب العرباء، الفصحاء اللسن البلغاء أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب. وأنكرت الشعوبية على خطباء العرب أخذ المخصرة والإشارة بها إلى المعاني. والشعوبية تبغض العرب وتفضل العجم. قال مالك: كان عطاء بن السائب يمسك المخصرة يستعين بها. قال مالك: والرجل إذا كبر لم يكن مثل الشباب يقوى بها عند قيامه. قلت: وفي مشيته كما قال بعضهم:
قد كنت أمشي على رجلين معتمدا *** فصرت أمشي على أخرى من الخشب
قال مالك رحمه الله ورضي عنه: وقد كان الناس إذا جاءهم المطر خرجوا بالعصي يتوكئون عليها، حتى لقد كان الشباب يحبسون عصيهم، وربما أخذ ربيعة العصا من بعض من يجلس إليه حتى يقوم. ومن منافع العصا ضرب الرجل نساءه بها فيما يصلحهم، ويصلح حاله وحالهم معه. ومنه قوله عليه السلام: «وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» في إحدى الروايات. وقد روي عنه عليه السلام أنه قال لرجل أوصاه:: «لا ترفع عصاك عن أهلك أخفهم في الله» رواه عبادة بن الصامت، خرجه النسائي. ومن هذا المعنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «علق سوطك حيث يراه أهلك» وقد تقدم هذا في النساء. ومن فوائدها التنبيه على الانتقال من هذه الدار، كما قيل لبعض الزهاد: مالك تمشي على عصا ولست بكبير ولا مريض؟ قال: إني أعلم أني مسافر، وأنها دار قلعة، وأن العصا من آلة السفر، فأخذه بعض الشعراء فقال:
حملت العصا لا الضعف أوجب حملها *** علي ولا أني تحنيت من كبر
ولكنني ألزمت نفسي حملها *** لأعلمها أن المقيم على سفر

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8